للمربي
الناجح صفات كلما ازداد منها زاد نجاحه في تربية ولده بعد توفيق الله، وقد
يكون المربي أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو عماً أو جداً أو خالاً، أو
غير ذلك، وهذا لا يعني أن التربية تقع على عاتق واحد، بل كل من حول الطفل
يسهم في تربيته وإن لم يقصد.
وصفات المربي كثيرة أهمها: العلم، والأمانة، والقوة، والعدل، والحرص، والحزم، والصلاح، والصدق، والحكمة.
1- العلم
عُدَّةُ المربي في عملية التربية. فلا بد أن يكون لديه قدر من العلم الشرعي، إضافة إلى فقه الواقع المعاصر.
والعلم
الشرعي: هو علم الكتاب والسنة، ولا يُطلب من المربي سوى القدر الواجب على
كل مكلف أن يتعلمه، وقد حدده العلماء بأنه "القدر الذي يتوقف عليه معرفة
عبادة يريد فعلها، أو معاملة يريد القيام بها، فإنه في هذه الحال يجب أن
يَعرف كيف يتعبد الله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة" ([1])
وإذا كان المربي جاهلاً بالشرع فإن أولاده ينشئون على البدع والخرافات، وقد يصل الأمر إلى الشرك الأكبر- عياذا بالله-.
ولو
نظر المتأمل في أحوال الناس لوجد أن جل الأخطاء العَقَدية والتعبدية إنما
ورثوها عن آبائهم وأمهاتهم، ويَظَلّون عليها إلى أن يقيّض الله لهم من
يعلمهم الخير ويربيهم عليه، كالعلماء والدعاة والإخوان الصالحين أو يموتون
على جهلهم.
والمربي
الجاهل بالشرع يحول بين أبنائه وبين الحق بجهله؛ وقد يعاديه لمخالفته
إياه، كمن يكره لولده كثرة النوافل أو ترك المعاصي أو الأمر بالمعروف أو
طلب العلم أو غير ذلك.
ويحتاج
المربي أن يتعلم أساليب التربية الإسلامية ويدرس عالم الطفولة؛ لأن لكل
مرحلة قدرات واستعدادات نفسية وجسدية، وعلى حسب تلك القدرات يختار المربي
وسائل زرع العقيدة والقيم وحماية الفطرة السليمة ([2]) ولذا نجد اختلاف
الوسائل التربوية بين الأطفال إذا اختلفت أعمارهم، بل إن الاتفاق في العمر
لا يعني تطابق الوسائل التربوية؛ إذ يختلف باختلاف الطبائع.
وعلى
المربي أن يعرف ما في عصره من مذاهب هدَّامة وتيارات فكرية منحرفة، فيعرف
ما ينتشر بين الشباب والمراهقين من المخالفات الشرعية التي تَفدُ إلينا؛
ليكون أقدر على مواجهتها وتربية الأبناء على الآداب الشَرعية.
2- الأمانة
وتشمل
كل الأوامر والنواهي التي تضمنها الشرع في العبادات والمعاملات ([3]) ومن
مظاهر الأمانة: أن يكون المربي حريصاً على أداء العبادات، آمراً بها
أولاده، ملتزماً بالشرع في شكله الظاهر وفي الباطن، فيكون قدوة في بيته
ومجتمعه، متحلياً بالأمانة، يسلكُ في حياته سلوكاً حسناً وخُلُقا فاضلا مع
القريب والبعيد في كل حال وفي كل مكان؛ لأن هذا الخُلُق منبعه الحرص على
حمل الأمانة بمعناها الشامل.
3- القوة
أمرٌ
شامل فهي تفوّقٌ جسديّ وعقليٌّ وأخلاقيٌّّ، وكثير من الآباء يتيسر لهم
تربية أولادهم في السنوات الأولى، لأن شخصياتهم أكبر من شخصيات أولادهم
([4]) ولكن قليلٌ أولئك الآباء الذين يَظلون أكبر وأقوى من أبنائهم ولو
كبروا.
وهذه
الصفة مطلوبة في الوالدين ومن يقوم مقامهما، ولكن لا بد أن تكون للأب وهي
جزء من القوامة، ولكن ثمة خوارق تكسر قوامة الرجل وتضعف مكانته في الأسرة،
منها:
*
أن تكون المرأة نشأت في بيت تقوده المرأة، والرجل فيه ضعيف منقاد، فتغتصب
هذه المرأة القوامة من الرجل بالإغراء، أو التسلط وسوء الحلق، واللسان
الحاد ([5]).
*
أن تعلن المرأة أمام أولادها التذمر أو العصيان، أو تتهم الوالد بالتشدد
والتعقيد، فيرسخ في أذهان الأولاد ضعف الأب واحتقار عقليته ([6]).
* أن تَعرض المرأة على زوجها أمراً فإذا أبى الزوج خالفته خفية مع أولادها، فيتعود الأولاد مخالفة الوالد والكذب عليه.
ولا
بد أن تسلم المرأة قيادة الأسرة للرجل، أباً كان أو أخاً كبيراً أو خالاً
أو عماً، وعليها أن تنقاد لأمره ليتربى الأولاد على الطاعة، وإن مَنَعَ
شيئاً فعليها أن تطيع ([7]) وإن خالفه بعض أولادها فيجب أن تخبر الأب ولا
تتستر عليه لأن كثيراً من الانحرافات تحدث بسبب تستُّر الأم.
وفي
بعض الأحوال تصبح الأم في حيرة، كأن يطلب الأولاد شيئاً لا يمنعه الشرع
ولا الواقع، ولكن الأب يمانع لرأي يراه قد يفصح عنه وقد يكتمه، فيحاول
الأولاد إقناع الأب فلا يقتنع، ففي هذه الحال لا بد أن تطيع المرأة،
وتطيّب نفس أولادها وتبين لهم فضل والدهم ورجاحة عقله، وتعزيهم بما في
الحياة من أحداث تشهد أن للوالدين إحساساً لا يخيب، وهذا الإحساس يجعل
الوالد أحياناً يرفض سفر ولده مثلاً، ثم يسافر الأصدقاء فيصابون بأذى
فيكون رفض الوالد خيراً وذلك بسبب إحساسه.
4- العدل
وقد
كان السلف خير أسوة في العدل بين أولادهم، حتى كانوا يستحبون التسوية
بينهم في القُبَل ([8]) وعاتب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أخذ الصبي
وقبَّله ووضعه على حجره ولما جاءت بنته أجلسها إلى جنبه، فقال له: { ألا
سوَّيت بينَهما } وفي رواية: { فما عدلت بينهما } ([9]) .
والعدل
مطلوبٌ في المعاملة والعقوبة والنفقة والهبَة والملاعبة والقُبَل، ولا
يجوز تمييز أحد الأولاد بعطاء لحديث النعَمان المشهور حيث أراد أبوه أن
يهبه دون إخوته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { أشهد غيري فإني لا
أشهد على جور } ([10]) ([11]) إلا أن هناك أسباباً تبيح تمييز بعض الأولاد
كاستخدام الحرمان من النفقة عقاباً، وإثابة المحسن بزيادة نفقته، أو أن
يكون بعضهم محتاجاً لقلة ماله وكثرة عياله ([12]).
ولا
يعني العدل تطابق أساليب المعاملة، بل يتميز الصغير والطفل العاجز أو
المريض ([13]) وذلك لحاجتهما إلى العناية. وكذلك الولد الذي يغيب عن
الوالدين بعض أيام الأسبوع للدراسة أو العمل أو العلاج، ولابد أن يبيّن
الوالدان لبقية الأولاد سبب تمييز المعاملة بلطف وإشفاق، وهذا التميز ليس
بالدرجة الكبيرة ولكن فرق يسير بين معاملة هؤلاء ومعاملة البقية، وهذا
الفرق اليسير يتسامح الإخوة به ويتجاوزون عنه.
ومما
يزرع الكراهية في نفوس الإخوة تلك المقارنات التي تُعقد بينهم، فيُمدح هذا
ويُذم هذا، وقد يقال ذلك عند الأصدقاء والأقارب فيحزن الولد المذموم ويكره
أخاه.
والعدل ليس في الظاهر فقط، فإن بعض الناس يعطي هذا خفية عن إخوته وهذا الاستخفاء يعلِّمُ الطفل الأنانية والتآمر ([14]).
5- الحرص
وهو
مفهوم تربوي غائبٌ في حياة كثير من الأسر، فيظنون أن الحرص هو الدلال أو
الخوف الزائد عن حده والملاحقة الدائمة، ومباشرة جميع حاجات الطفل دون
الاعتماد عليه، وتلبية جميع رغائبه.
والأم
التي تمنع ولدها من اللعب خوفاً عليه، وتطعمه بيدها مع قدرته على الاعتماد
على نفسه، والأب الذي لا يكلف ولده بأي عمل بحجة أنه صغير كلاهما يفسده
ويجعله اتكالياً ضعيف الإرادة، عديم التفكير. والدليل المشاهَد هو: الفرق
الشاسع بين أبناء القرى والبوادي وبين أبناء المدينة ([15]) والحرص
الحقيقي المثمر: إحساس متوقد يحمل المربي على تربية ولده وإن تكبَّد
المشاق أو تألم لذلك الطفل. وله مظاهر منها:
(أ)
الدعاء: إذ دعوة الوالد لولده مجابة لأن الرحمة متمكنة من قلبه فيكون أقوى
عاطفة وأشد إلحاحا ([16]) ولذا حذر الرسول r الوالدين من الدعاء على
أولادهم فقد توافق ساعة إجابة.
(ب)
المتابعة والملازمة: لأن العملية التربوية مستمرة طويلة الأمد، لا يكفي
فيها التوجيه العابر مهما كان خالصاً صحيحا ([17]) وقد أشار إلى ذلك النبي
r حيث قال: { الزمُوا أولادكم.. وأحسنوا آدابهم } ([18]) .
والملازمة
وعدم الغياب الطويل عن البيت شرط للتربية الناجحة، وإذا كانت ظروف العمل
أو طلب العلم أو الدعوة تقتضي ذلك الغياب فإن مسئولية الأم تصبح ثقيلة،
ومن كان هذا حاله عليه أن يختار زوجة صالحة قوية قادرة على القيام بدور
أكبر من دورها المطلوب.
6- الحزم
وبه
قوام التربية، والحازم هو الذي يضع الأمور في مواضعها، فلا يتساهل في حال
تستوجب الشدة ولا يتشدد في حال تستوجب اللين والرفق ([19]).
وضابط
الحزم: أن يُلزم ولده بما يحفظ دينه وعقله وبدنه وماله، وأن يحول بينه
وبين ما يضره في دينه ودنياه، وأن يلزمه التقاليد الاجتماعية المرعيَّة في
بلده ما لم تعارض الشرع. قال ابن الجوزي - رحمه الله-: "فإنك إن رحمت
بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغْ جاهلاً فقيراً"
([20]).
وإذا
كان المربي غير حازم فإنه يقع أسير حبه للولد، فيدلّله، وينفذ جميع
رغائبه، ويترك معاقبته عند الخطأ، فينشأ ضعيف الإرادة منقاداً للهوى، غير
مكترث بالحقوق المفروضة عليه ([21]).
وليس حازماً من كان يرقب كل حركة وهمسة وكلمة، ويعاقب عند كل هفوة أو زلّة، ولكن ينبغي أن يتسامح أحيانا ([22]).
ومن
مظاهر الحزم كذلك عدم تلبية طلبات الولد؛ فإن بعضها ترف مفسد، كما أنه لا
ينبغي أن ينقاد المربي للطفل إذا بكى أو غضب ليدرك الطفل أن الغضب والصياح
لا يساعده على تحقيق رغباته ([23]) وليتعلمَ أن الطلب أقرب إلى الإجابة
إذا كان بهدوء وأدب واحترام.
ومن
أهم ما يجب أن يحزم فيه الوالدان النظام المنزلي، فيحافظ على أوقات النوم
والأكل والخروج، وبهذا يسهل ضبط أخلاقيات الأطفال، "وبعض الأولاد يأكل متى
شاء وينام متى شاء ويتسبب في السهر ومضيعة الوقت وإدخال الطعام على
الطعام، وهذه الفوضوية تتسبب في تفكك الروابط واستهلاك الجهود والأوقات،
وتنمي عدم الانضباط
في
النفوس.. وعلى رب الأسرة الحزم في ضبط مواعيد الرجوع إلى المنزل
والاستئذان عند الخروج للصغار - صغار السن أو صغار العقل- " ([24]) .
7- الصلاح
فإن لصلاح الآباء والأمهات أثر بالغ في نشأة الأطفال على
الخير والهداية- بإذن الله- وقد قال سبحانه: { وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحًا} ([25]) وفيه دليل على أن الرجل الصالح يُحْفَظ في ذريته، وتشمل
بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى درجته
في الجنة لتقر عينه كما جاء في القرآن ووردت به السنة ([26]) ومن المشاهَد
أن كثيراً من الأسر تتميز بصلاحها من قديم الزمن وإن ضل ولد أو زلَّ فَاءَ
إلى الخير بعد مدة؛ لصلاح والديه وكثرة طاعتهما لله. وهذه القاعدة ليست
عامة ولكن هذا حال غالب الناس. وقد يظن بعض الناس أن هذا لا أثر له،
ويذكرون أمثلة مخالفة لذلك، ليبرروا تقصيرهم وضلالهم.
9- الصدق
وهو
"التزام الحقيقة قولاً وعملاً"، والصادق بعيد عن الرياء في العبادات،
والفسق في المعاملات، وإخلاف الوعد وشهادة الزور، وخيانة الأمانات ([27]).
وقد
حذر النبي r المرأة المسلمة التي نادت ولدها لتعطيه، فسألها: { ماذا أردت
أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال: لو لم تعطيه شيئا كُتبت عليكِ
كذبة } ([28]) ([29])
ومن
مظاهر الصدق ألا يكذب المربي على ولده مهما كان السبب؛ لأن المربي إذا كان
صادقاً اقتدى به أولاده، وإن كان كاذباً ولو مرة واحدة أصبح عمله ونصحه
هباء، وعليه الوفاء بالوعد الذي وعده للطفل، فإن لم يستطع فليعتذر إليه
([30]).
وبعض
الأطفال يتعلم الرياء بسبب المربي الذي يتظاهر أمام الناس بحال من الصلاح
أو الخلق أو الغنى أو غيرهما ثم يكون حاله خلاف ذلك بين أسرته ([31]).
9- الحكمة
وهي
وضع كل شيء في موضع، أو بمعنى آخر: تحكيم العقل وضبط الانفعال، ولا يكفي
أن يكون قادراً على ضبط الانفعال واتباع الأساليب التربوية الناجحة فحسب،
بل لابد من استقرار المنهج التربوي المتبع بين أفراد البيت من أم وأب وجد
وجدة وإخوان وبين البيت والمدرسة والشارع والمسجد وغيرها من الأماكن التي
يرتادها؛ لأن التناقض سيعرض الطفل لمشكلات نفسية ([32]).
وعلى
هذا ينبغي تعاون الوالدين واتفاقهما على الأسلوب التربوي المناسب، وإذا
حدث أن أمر الأب بأمر لا تراه الأم فعليها أن لا تعترض أو تسفِّه الرجل،
بل تطيع وتنقاد ويتم الحوار بينهما سراً لتصحيح خطأ أحد الوالدين دون أن
يشعر الطفل بذلك.