عم شحاتة سائس السيارات رجل مكافح.. يبدأ يومه بالعناية بسيارات البهوات الواقفة في الخرابة وتنظيفها واقفًا مشمر الساقين ممسكًا بالدلو والفوطة في صقيع الصباح، ثم يرحل آخر البهوات فيصير الصباح كله له كي يعمل في بناية قريبة تحت الإنشاء، فيقوم بحمل الطوب إلى الطابق الرابع
أحيانًا يتسلى بتنجيد بعض قطع الأثاث القديمة لزوم جهاز البنت، وأحيانًا يعمل كبواب يلبي حاجات ربات البيوت العجائز اللاتي يخاطبنه من الشرفات. دعك من أنه في قريته يربي بعض المواشي لأحدهم
يقيم عم شحاتة في عشة صنعها لنفسه من بقايا الورق المقوى والمشمع وأية قطعة خشب وجدها، وبداخلها تجد فراشًا صغيرًا وجهاز مذياع يخص ماركوني شخصيًا، وهناك ثلاثة قوالب طوب اتخذها موقدًا يضع عليه عدة الشاي.. نسيت أن أقول إنه يبيع الشاي أحيانًا لكل الحرفيين والمتاجر المحيطة بالخرابة التي تقف فيها سياراته
في كل يوم عند العصر يصل.. وانج- هاو.. مندوب المبيعات الصيني حاملاً حقيبته الثقيلة التي ينوء بها كتفاه. ابتسامة قاسية على وجهه المجعد المرهق، ثم يرتمي ليجلس على كومة من قوالب الطوب، وقد اندهشت للغاية لتلك الصداقة التي تجمع بين رجلين لا يتكلمان أية لغة مشتركة.. لا عربية ولا إنجليزية ولا صينية، وبرغم هذا هما صديقان حميمان والتفاهم بينهما ممتاز
*******
يجلس.. وانج –هاو.. بانتظار عم شحاتة كي يعد له كوب الشاي الساخن المجاني غالبًا، فيرشف منه في انتشاء.. يبدو أنه لم يبع شيئًا بعد يوم كامل من المشي في شوارع طنطا المزدحمة الوعرة
أين يقيم؟.. ما الجهة التي يعمل معها؟.. هو لا يجيب وعم شحاتة لا يعرف.. برغم هذا فالرجلان صديقان حميمان. تشعر عندما تراهما من بعيد أنهما يتبادلان حديثًا مهمًا ثم تقترب فتدرك أنهما صامتان يتبادلان الأفكار
عندما تأملت في الأمر بدا لي غريبًا جدًا.. هذا الرجل الصيني جاء من الجهة الأخرى من العالم ليعمل مندوب مبيعات في مدينة صغيرة في مصر، ويجلس في خرابة ليشرب الشاي من كنكة سوداء متسخة أعده له سائس سيارات.. ما هذا المصير؟... وما الذي قاده له؟
*******
العلاقة الحميمة بينه وعم شحاتة سببها مفهوم.. إن بين الرجلين لغة واحدة بليغة هي لغة الشقاء.. يفهمان بعضهما بلا كلمات.. كان من المفترض أن أشعر بالإعجاب والانبهار بهذا النشاط.. خلية النحل الصينية التي لا تكف عن العمل.. إن الصينيين في كل مكان من مصر اليوم. لم يعد الأمر يقتصر على تصدير المنتجات بل إن العمالة الصينية تملأ مصر، ولا أعرف المسئول عن هذا في بلد يعاني شبابه البطالة أصلاً. بل إن هناك إشاعات عن عرسان صينيين جاءوا ليقضوا على أزمة الزواج عندنا!.. وإن هناك نحو 50 صينيًا تزوجوا مصريات خلال عام 2006
لو صح هذا لكان الجنون بعينه.. يتقدم الشاب المصري لفتاة فتطلب كذا وكذا وكذا.. لأنها مش أقل من عزة بنت خالتها.. ثم يتحدثن عن مشكلة العنوسة ويتزوجن وانج – هاو
هناك غزو من آلاف الصينيات على عزبة أم بدوي شمالي شبرا الخيمة.. خمسة آلاف فتاة صينية تفد على قرية أم بدوي يوميًا، حتى أن أهالي القرية صاروا يجيدون الصينية تقريبًا
هناك زحف صيني على الشقق الرخيصة في امبابة والمنيب.. البائعة الصينية تدق الباب وتغض بصرها قائلة: السلام عليكم ورحمة الله.. ثم تطلب مقابلة ربة البيت وترفض الدخول من دون وجودها
*******
كلنا يعرف أن الاقتصاد الصيني ينمو بسرعة غير مسبوقة.. في إحدى قصص مايكل كرايتون يقول المهندس الأمريكي: ضيقو الأعين قادمون.. كانوا اليابانيين ثم صاروا الصينيين.. كلهم ضيقو الأعين لا يأخذون إجازة يوم الأحد ولا يهتمون بكرة القدم
مجلة الايكونوميست قالت إن الصين التي يبلغ سكانها ربع سكان العالم ستصل الى الدولة الأولى في النمو الاقتصادي عام 2020 وسيبلغ حجم ناتجها المحلي 29.6 تريليون دولار، وهي اليوم تشغل الموقع الثالث بعد اليابان
الصين تنتج ثلثي إنتاج العالم من ماكينات تصوير المستندات وأفران الميكروويف والدي في دي والأحذية ونصف إنتاج العالم من الملابس وآلات التصوير وخمسي إنتاج العالم من الكمبيوتر المحمول.. إن الصين قد فاقت الولايات المتحدة في تصدير معظم سلع التكنولوجيا حول العالم.. لهذا كانت هناك حرب اقتصادية واضحة من الولايات المتحدة ضد هذا العملاق المصر على أن ينمو أكثر
صحيح أنه ما زال بعيدًا جدًا عن الاقتصاد الأمريكي، لكن لابد من توجيه ضربات له
بل إن العديد من المراقبين السياسيين ينظرون إلى الضربة العسكرية على أنها.. خيار أخير.. لمنع قيام قوة عظمى صينية في العالم، وهم يراهنون على.. الشرك التايواني.. الذي قد يؤدي بالصين لضرب تايوان من ثم تضربها الولايات المتحدة وتستريح. هكذا راحت الضربات الاقتصادية تتوالى: موضوع المنتجات الصينية التي تشكل خطورة على الأطفال.. هذه الفضيحة التي أدت لسحب 19 مليون لعبة من الأسواق مؤخراً فيما يعرف بالاسترجاع
Recall
لأنها مطلية بمادة سامة تحتوي الرصاص. تذكر أن الصين تورد 80 بالمائة من لعب الأطفال في العالم اليوم
ثم جاءت قصة معجون الأسنان الملوث والدهانات السامة والمأكولات البحرية التي أضيفت لها مضادات حيوية. وكانت المنتجات الصينية في عام 2006 تمثل نصف المنتجات المعيبة التي كشف عنها نظام حماية المستهلكين الأوروبي نتيجة لهذا أعدمت بكين رئيس هيئة متابعة سلامة الاغذية والعقاقير للتقصير في عمله
*******
يجب أن يحمد المسئولون هنا الله على أنهم ليسوا في الصين
تصر الصين على توجيه ضربات مضادة من مبدأ المعاملة بالمثل: الصين ستقوم هي الأخرى بفرض معايير أكثر صرامة بشأن الواردات الغذائية من الولايات المتحدة.. لقد أعادت إرسال شحنة من المشروبات قادمة من الولايات المتحدة بعد ان أظهرت اختبارات أجريت في شنجهاي وجود نسبة كبيرة بها من الصبغة الحمراء.. قررت سلطات الحجر الصحي في بكين حظر استيراد اللحوم من سبع شركات أمريكية كبرى، مشيرة إلى أن نتائج الفحوص المعملية على عينات من تلك اللحوم أظهرت أنها: ملوثة، مما يشكل خطراً على صحة المستهلكين
في يوليو 2007 أعلنت سلطات مراقبة الجودة الصينية أنها وجدت بودرة بروتين مستوردة من شركة أمريكية تحتوي على كميات زائدة بشكل كبير من عنصر السيلينيوم
برغم هذا –والكلام للايكونوميست- ازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لقد بلغ عدد بليونيرات الصين 106 بليونير، ويمكن القول ان النمو الاقتصادي لم يحدث فارقًا في حياة الناس، فما زالت الصين تشغل المركز 100 في معدل نصيب الفرد من اجمالي الناتج والمركز 81 على صعيد التنمية البشرية وهي بالتالي دولة نامية على هذا الصعيد
حجم الاقتصاد الصيني ما زال أقل بكثير من نصف حجم الاقتصاد الياباني.. نحو 9 تريليون دولار، ناهيك عن الاقتصاد الامريكي الذي يزيد على 50 تريليون دولار
*******
الاستنتاج الرئيسي هو ان الصين دولة متقدمة جدا في مؤشرات النمو الاقتصادي، لكنها دولة نامية في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. مشكلة الصين هي أن سياسييها يخلطون بين النمو والتنمية، وهذا متوقع في دولة دكتاتورية.. أنا لا أفهم الاقتصاد جيدًا، لكنني أفهم منظر.. وانج هاو.. البائس الجالس يشرب الشاي من يد عم شحاتة.. أقسم بالله أن هذا رجل لا ينتمي لقوة اقتصادية كاسحة، وبهدلة الأرامل التي تعيشها الزهرات الصينية لا تمت بصلة لرفاهية الفرد
إن وانج هاو صورة أخرى لعم شحاتة. كلاهما غلبان يجري على أكل عيشه في ظروف أقوى منه.. ولهذا لا أرى الصينيين قادمين على المدى البعيد
*******