لك أن تتخيل أنك تجلس وإلى جوارك شاب ينتظر أن يأتيه الموت. أيامه فى الحياة ربما تكون معدودة ـ يحددها الله سبحانه وتعالى ـ لا نعرف ما الأفضل له، أن تواسيه أم تقويه.
فقط يكفى أن تنظر إلى وجهه، وتراقب عينيه الزائغتين ستجده يحمل أحزاناً وهموماً لا يستطيع جبل حملها ـ رغم الابتسامة التى تظهر على الوجه والضحكة التى تخرج متقطعة، فصوته يخرج من داخله كلمات تفضحه وتعبر عن أحزانه.
«حمدى» المصاب بالإيدز، قرر أن يواجه الجميع. رفض فكرة تمويه عينيه وكأنه «متهم»، بصوت عال قال: «سأتحدث وسأواجه المرض.. سألعب وأضحك وأعيش.. وسأذهب إلى مباراة مصر والجزائر.. فما أصعب أن تنتظر الموت يأتيك».
عمره لم يكن يتجاوز السنوات الست عندما تعرض لحادث طريق، وتم نقله إلى المستشفى، وبعد فترة من العلاج عاد إلى منزله، مرت الأيام والسنوات حتى إذا وصل إلى عامه الـ٢٠ شعر بالألم والوهن فى قواه، تردد كثيراً فى الذهاب إلى الطبيب، فى كل مرة يطلب والدته أن تعد له وجبة غداء دسمة، وتتحسن حالته لساعات ولكن يعود الضعف من جديد.
اتخذ الشاب قراره وتوجه إلى الطبيب، وهناك طلب الطبيب إجراء فحوصات وتحاليل، خضع لها الشاب دون أن يعرف ما النتائج التى ستخرج منها، فى يوم كانت السماء تمطر فيه، عاد الشاب إلى الطبيب ليسأل عن النتائج الطبية.
الطبيب أمسك بالفحوصات ينظر إليها تارة وينظر إلى وجه الشاب تارة أخرى، يلف ويدور حوله، سأله عدة أسئلة منها «هل أقمت علاقات جنسية من قبل؟.. هل نقلت دماً إلى أحد من قبل.. هل أنت متزوج أو لديك أطفال؟»
فرد الشاب بكلمة واحدة «لا» ولكنها كانت تحمل خوفاً وقلقاً وحزناً تسربت إلى قلبه فتابع الطبيب بجملة «الحمدلله».
سؤال خرج بصعوبة من فم الشاب.. «إيه الحكاية يا دكتور.. أنا عندى إيه؟».. فرد عليه الطبيب.. فى مثل تلك الأمور لابد أن يكون الطبيب صريحاً مع مريضه.. «لكى تتعاون معنا على التخلص منه.. أنت مصاب بالإيدز».
مشهد قد يبدو سينمائياً.. ولكنه لا يحمل أى نوع من التمثيل.. الشاب يصاب بالدوار، يصمت قليلاً، ثم يرتمى على أقرب كرسى منه.. يضع يديه فوق رأسه.. يفكر فى مليون شىء.. كيف.. وأين.. وماذا سيقول لأسرته وأصدقائه.. والسؤال الأهم كم يتبقى له من العمر؟
دون أن يتفوه بكلمة واحدة نهض الشاب من مكانه متوكئا وكأنه عجوز فى الثمانين من العمر أوقفه الطبيب متسائلاً: «إلى أين أنت ذاهب؟»
استدار الشاب وعيناه مملوءتان بالدموع.. سأذهب إلى المنزل.. وسأعود إليك بعد ساعات..
اتصل الطبيب بالأسرة ليبلغهم، إلا أن الشاب قاطعه: وطلب منه أن يتركه هو ينقل خبر الكارثة إليهم.. معللاً بأن والدته لن تستطيع تحمل الخبر فى الهاتف.
جر الشاب قدميه حتى وصل إلى منزله.. يصعد خطوة على السلم ثم يعدل وينزل خطوتين إلى أسفل.. يتردد.. يدخل ويرتمى فى حضن أمه وأبيه، أيشكو لهما حاله ومرضه الذى يهدد حياته بالخطر، أم يهرب بعيداً، ويموت وحيداً بعيداً عن أعين أمه وأبيه؟.
كان عليه الاختيار.. يستريح فى أحضان الأم ويوجع قلبها حزناً عليه.. أم يبتعد إلى آخر الدنيا.. ويترك الوالدين اللذين خرجا من الحياة به، ولم يرزقا بأبناء غيره.
لم يتحمل الشاب لوعة الأحزان وآلام المرض بصوت خافت طرق باب منزله، فتح له الأب ودون أن يتحدث معه دخل مسرعاً إلى غرفته وأغلق الباب عليه.. وارتمى فوق سريره، موجهاً نظره إلى سقف الغرفة.. ماذا يفعل هل يخبرهما بمرضه أم يخفيه.. ويبقى السر بين الطبيب والمريض.
دخلت الأم عليه.. وكأن قلبها يدلها على أن مكروهاً أصاب ابنها الوحيد. بحركات بطيئة اقتربت الأم من سريره جلست إلى جواره ولكنه لم يشعر بها.. وضعت يديها فوق رأسه.. انتفض فجأة وكأن ثعباناً لدغه.
نظرت الأم إليه.. بكى الشاب.. وارتمى فى حضنها وروى لها ما حدث معه داخل عيادة الطبيب.. وعندما وقعت كلمة «الإيدز» على أذن الأم.. صرخت بصوت عال.. وضمت رأسه إلى صدرها.. حضر إليها الأب.. وعلم بما قاله الابن.. دموعهما لم تتوقف طيلة أسبوع كامل. «الأب» أسرع بالاتصال بالعديد من الأطباء فى محاولة لإنقاذ الابن الوحيد.. والأم تجلس إلى جواره تمسح رأسه وتقدم له الطعام.
داخل إحدى المصحات النفسية الطبية كان اللقاء مع الشاب، المكان فى منطقة صحراوية.. محاط بسور من الورد.. ملاعب كرة القدم والتنس والسلة تحيط به.. وحمام سباحة كبير وسط عدد من المبانى الجميلة.. مكان أشبه بقرية سياحية.. يعيش فيها أصحاب المرض النفسى والمصابون بالإدمان والإيدز كل فى مبنى مخصص له.
فى إحدى الحدائق الموجودة فى القرية.. جلس الشاب على الأرض. وضع يديه خلف رأسه، وألقى بجسده على الأرض.. وجه عينيه إلى السماء وكأنه يتحدث معها.. يتذكر كل لحظة فى حياته يوم أن ارتدى ملابس المدرسة لأول مرة، واصطحبه والده إلى المدرسة. ويوم أن نظم وعدد من أصدقائه يوما ترفيهياً فى المدرسة وذهبوا إلى المسرح والسينما وأحد المصانع.
يغير الشاب جلسته على الأرض.. وكأنه يمر بالأيام حتى يصل بذاكرته إلى يوم دخوله المستشفى وعملية نقل الدم الملوث التى تسببت فى إصابته بالإيدز.. يضرب بيده على الأرض قائلاً «ليه كده.. لماذا بإهمال من الآخرين تتهدد حياة أبرياء».
كلمات الأطباء تقاطع تفكيره وشطحاته.. أحد الأطباء يؤكد له أن الاكتشاف المتأخر للإصابة جعله يتمكن منه.. وطبيب آخر يؤكد له أن التعايش مع المرض هو الذى سيحدد مدى إمكانية العلاج وهواجس تداهمه بين الحين والآخر.. وتسيطر عليه فكرة الاستعداد للموت.. وأن أيامه المتبقية قد تكون شهراً أو سنة أو أكثر.
شاهدناه يضحك أحياناً ويبكى أحياناً، اقتربنا منه.. وجلسنا إلى جواره.. عرفته بنفسى - قلت له أنا «صحفى» - فرد ضاحكاً «انت عاوز تنشر قصتى» فبادرته «دون أن أكتب اسمك أو أنشر صورتك».. ضحك الشاب.. ولم أعرف إن كانت ضحكة يأس من الحياة أم لها مدلول آخر.
أخبرته بأنه يمكننى أن أستأذن وأرحل عنه دون أن يتفوه بكلمة واحدة.. ولكنه قاطعنى مؤكداً أنه لا يخجل أبداً من قصته. بل بالعكس - والكلام على لسانه - أنا سعيد أننى بدأت أتعافى من مرحلة اليأس التى كانت تسيطر علىَّ ولو كنت حضرت إلىّ منذ سنة تقريباً لإجراء حوار صحفى معى مثلاً يمكن وقتها كنت قذفت بأى شىء أمامى، أما الآن فأنا مختلف تماماً.
طلبت منه أن يشرح لى الاختلاف بين ما كان، وما يعيش فيه الآن، فرد: «منذ لحظة علمى بالإصابة بهذا المرض اللعين. وقتها تمنيت الموت دون أن أنتظره.. فالموت أحياناً وغالباً يكون أرحم من انتظاره، خاصة أنك لا تعرف أين سيأتيك ومتى.. هل ستموت فى الشارع أم فى العيادة وسط أسرتك».. كل هذه أسئلة كانت تدور فى رأسى.. حتى كدت أن أصاب بالجنون.
تلك المرحلة من اليأس هى الأصعب فى حياة حاملى الإيدز - هكذا يشير الشاب - وقتها شعرت بأن الحياة انتهت بالنسبة لى.. وسيطرت علىّ تلك الجملة التى طالما فكرت فيها كثيراً.. وربما أكون قد حاولت تنفيذها.. وهى «إذا كان المجتمع انتقم منك.. فلماذا لم تنتقم منه؟!».
ولكن دائماً ما أعدل عن التفكير فيه.. بعدما أشاهد والدتى التى تبكى ليلاً ونهاراً علىّ، ووالدى الذى فقد نصف ورثه حزناً علىّ.
وما زادنى بأساً وحزناً وهرباً من الحياة هو فراق الأصدقاء والأحباب.. ونظرات المجتمع.. البعض يراها عادية.. ولكنها تكون للمريض بمثابة الرصاصة التى تخترق جسم الإنسان - نظراتهم تكون أقوى بكثير من حبل المشنقة الذى يلفه عشماوى حول رقبة المحكوم عليهم بالإعدام، بل أحياناً يكون المحكوم عليه قد ارتكب جناية ويستحق عليها الإعدام شنقاً، فما بالك وبإنسان لا ذنب له فى الحياة ومطلوب تنفيذ حكم الإعدام فيه.
خطيبتى - لا داعى لذكر اسمها - لأننى ببساطة نسيته.. أو أحاول أن أنساه.. فهى لا تستحقنى.. أعذرها أحياناً لبعدها عنى.. ولكن ما لا أعذرها عليه هو عدم وقوفها بجانبى من أجل عودتى إلى الحياة، كان يمكنها أن تعتذر عن استكمال حياتنا أو إتمام الزواج، وهذا حقها.. ولكن كان يمكنها أن تساندنى كصديق.. خاصة أنها كانت الأقرب لى لحظة اكتشاف المرض.
ولكنى سأتزوج بأخرى.. عندى أمل أن أجد الإنسانة التى تناسبنى وبالطبع لابد أن تكون متعايشة مع مرض الإيدز أيضاً، لأنه لا يمكننى الارتباط بأى فتاة سليمة.. فليس أى فتاة توافق على هذا طبعاً.. كنت أحبها وبمجرد أن عرفت أننى مريض بالإيدز لم أرها حتى الآن. اختفت ولم ترسل لى سلاماً على الأقل.. على أى حال هى معذورة.
سألته.. ألم تخش من نظرة المجتمع لك.. فرد سريعاً: كان زمان الكلام ده.. فى بداية اكتشاف المرض.. لكن الآن مر على ١٢ سنة تقريباً.. والكلام ده أصبح طبيعى بالنسبة لى.. كما أننى لا أتقابل مع أشخاص كثيراً.. وحتى إذا تقابلت معهم فأنا تعديت مرحلة اليأس.. أنا متفائل وإن شاء الله ربنا هيقف معى وسأعود إلى حياتى من جديد.
أصدقائى هم الآخرون بعدوا عنى - هكذا يكمل - وأيضا لهم العذر.. ربما لو كنت فى مكانهم لكنت تصرفت مثلهم.. كيف لى أن أصاحب إنساناً مريضاً بالإيدز.
وعن عمله قال: قبل اكتشاف المرض كنت أعمل فى مجال السياحة.. وتركتها بعد ذلك لأنها شاقة، والأطباء أوصوا بعدم بذل جهد كبير، أحمد الله أن والدى مقتدر ويستطيع أن ينفق على ولدى بعض الممتلكات التى تدر على دخلاً معقولاً.. وأحمد الله أننى تقابلت مع دكتورة اسمها خديجة المعلى أمسكت بيدى ووضعتنى على طريق العلاج.
بضحكة عالية رد الشاب على هاتف جاءه أثناء حوارنا، أحد أصدقائه يطمئن عليه ويدعوه لمشاهدة مباراة كرة القدم بين الأهلى وإنبى. ويبدو أن صديقه زملكاوى.. وتمنى أن ينهزم الأهلى.. فرد عليه الشاب الأهلاوى.. إن شاء الله هنكسب علشان ننكد عليكم يا زملكاوية.
بدهشة كبيرة سمعت تلك الكلمات، نظرت إلى زميلى المصور فؤاد الجرنوسى.. وجدته مندهشاً.. كيف لشاب.. ربما تكون أيامه فى الحياة معدودة - وكل شىء بأمر الله طبعاً - أن يهتم باللعب ويتحفز لتشجيع فريقه.. وقبل أن أسأله عن ذلك..
رد على وكأنه قرأ ما كنت أفكر فيه، لا تتعجب أن أسير على الجملة التى تقول: صعبها تصعب وسهلها تسهل.. حأجلس فى البيت حزين وأنتظر الموت.. وأملأ البيت حزناً علىّ وعلى أسرتى.. لماذا كل هذا.. الأعمار بيد الله.. وعيش حياتك.. لن تأخذ منها شىء.. وأقولك على شىء.. أنا حأحضر مباراة مصر والجزائر القادمة، وإن شاء مصر هتفوز وهنروح كأس العالم.
لن تصدقنى إذا قلت لك إننى أسعد إنسان أو هكذا أشعر الآن.. والمرض علمنى معنى الحياة.. علمنى يعنى إيه «أم» تحبك وتسهر الليالى.. ويعنى إيه أب يخاف عليك.. ويتمنى أن يأتى بقطعة من السماء إليك ليزيل الغمة عنك.
أشعر بالسعادة لأننى تقربت إلى الله.. وعرفت أحبائى وأصدقائى.. أعيش كأى إنسان عادى.. صحيح أن آلام الضعف قد تداهمنى أحياناً وأفكاراً تداهمنى بالموت المفاجئ.. ولكن يبقى الأمل فى الحياة أجمل من أى شىء.