لقد من الله علينا جميعاً نحن المربين بأن غرس في نفوس أبنائنا الحاجة للتدين والرغبة الملحة فيه، إن هذه المنحة الربانية لمن أهم المنح التي سهلت لنا عملية التربية وجعلتها سهلة ميسرة وجعلت رغبتنا في اصلاح أبنائنا مدعومة بالتأييد من الله تعالى.
الطفل يعتقد وجود ذات علوية ويرتبط بها:
(والدين في مفهومه العام هو: اعتقاد بوجود ذات غيبية علوية قادرة على تصريف شئون المخلوقات وتدبير أمورها، ويرتبط هذا الاعتقاد لدى المؤمن بها بالخضوع لها وتمجيدها، ومناجاتها واللجوء إليها، والتعبد لها في رغبة ورهبة، وخوف وطمع، وفق قواعد وطقوس عملية محددة.
وبذلك يشمل مفهوم الدين معنيين رئيسيين: المعنى الأول يتعلق بالإحساس بالدين، أو النزعة نحو التدين، أو الاعتقاد.
والمعنى الثاني يتعلق بظواهر الدين وجملة نواميسه النظرية، التي تحدد صفات الذات العلوية وتعاليمها، وأوامرها ونواهيها، والقواعد والطقوس الدينية التي يتعبد بها الفرد أو الجماعة.
والدين نزعة فطرية لدى البشرية، حيث يمكننا القول دون شطط أن الإنسان بطبعه كائن متدين؛ إذ تؤكد الأبحاث والدراسات الأنثروبولوجية أن ظاهرة التدين ظاهرة غريزية، وبمعنى آخر وجود غريزة دينية لدى الإنسان من بين الغرائز أو الدوافع الفطرية التي يولد بها.
وكما أثبتت أبحاث التحليل النفسي أن التدين من النزعات الأساسية في الإنسان تلك التي تكمن في اللاواعي.
فالدين مصدر استكمال النزعة الفطرية للاعتقاد وإشباع الميول الطبيعية للتدين، والدين يؤدي إلى تحقيق التكامل النفسي لدى الطفل بالإيمان واليقين في العقيدة.
والدين يولد التفاؤل والسكينة والطمأنينة والسلام والأمن النفسي لدى الناشئ، والدين مصدر الفضائل والقيم والمبادئ والمُثل العليا، التي تُغرس في نفس الناشئ منذ فجر حياته الأولى وتنمو مع شخصيته.
والدين يُقوِّي لدى الفرد الشعور بالمسئولية والالتزام النابع من نفسه، سواء أكان ذلك في حضرة السلطة الخارجية أم أثناء غيابها؛ لذلك كله كانت نزعة الإنسان للتدين نزعة فطرية وقوية.
وبغير الدين والإيمان لا تستقيم للفرد حياته، ولا يهنأ باله، ولا تتوفر له أسباب السكينة والأمن النفسي، فيشعر بالضياع والتمزق النفسي والاضطراب العصبي والعقلي، ولا يكون قادرًا على أن يعيش حياة سوية هادئة وكثيرًا ما يؤدي الشك والإلحاد بالمرء إلى الانتحار، وترك الدنيا التي يشعر ببؤسه وعذابه فيها، ولو كان مؤمنًا لكانت نظرته إلى الحياة نظرة التفاؤل والاستبشار، فيسعد لمسراتها ولذائذها ويغالب مشاكلها ومصاعبها، إن الإيمان هو منبع السعادة الحقيقية والأمن والطمأنينة النفسية)[أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، د.عبد الحميد الصيد الزنتاني، ص(50)].
قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقال تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
إلحاح علماء التربية والأخلاق على الدعوة للتدين:
ولذلك؛ فإن الدعوة للتدين غدت أمرًا (يلح عليها كبار علماء التربية والأخلاق في بلاد الغرب، لتحرر المجتمع من الإلحاد والرذيلة والميوعة والجريمة، وإليك طرفًا من أقوالهم( كتب "دستوفسكي" أعظم "قصصي" في عالم الغرب ليبين كيف أصبح الإنسان متلبسًا بالشياطين حين هجر الله تعالى.
ويقول الأديب الفرنسي الشهير "فولتير" ساخرًا من طبقة الملحدين الماديين المشككين: (لم تشككون في الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي).
ويقول الدكتور "هنري لنك" الطبيب النفسي الأمريكي في كتابه "العودة إلى الإيمان": (فإن هؤلاء الآباء الذين كانوا يتساءلون كيف ينمون عادات أولادهم الخلقية ويشكلونها، في حين ينقصهم هم أنفسهم تلك التأثيرات الدينية التي كانت قد شكَّلت أخلاقهم من قبل، كانوا في الحقيقة يجابهون مشكلة لا حل لها، فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق، وبناموسه الخلقي الإلهي في قلوب الناس).
وذكرت مجلة الحج المكية في السنة 23 من الجزء الثالث عن لسان "سوتيلانا" بنت "ستالين": (أن السبب الحقيقي لهجر وطنها وأولادها هو "الدين"؛ فقد نشأت في بيت ملحد لا يعرف أحد من أفراده "الرب" ولا يذكر عندهم عمدًا ولا سهوًا، ولما بلغت سن الرشد وجدت في نفسها من غير أي دافع خارجي إحساسًا قويًّا بأن الحياة من غير الإيمان بالله ليست حياة، كما لا يمكن أن يقام بين الناس أي عدل أو إنصاف من غير الإيمان بالله، وشعرت من قرارة نفسها أن الإنسان في حاجة إلى الإيمان كحاجته إلى الماء والهواء).[تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، (1/35)].
فإذا كان هذا حال النزعة للتدين ـ عزيزي المربي ـ عند علماء التربية في بلاد الغرب التي لم تشرق عليها شمس عقيدة التوحيد، ولم تتخذ محمدًا رسولًا، ولم تتعطر بعطر الإيمان، ولم تتزين بزينة القرآن، فكيف إذًا بالنزعة إلى التدين في بلادنا المسلمة، وكيف هو حالها في صدور أبنائنا وبناتنا؟!
مما لاشك فيه أن هذه النزعة قوة في يديك عزيزي المربي، وأنت تربي طفلك، ومنحة من الله تعالى لك، فعليك أن تُربيها وتستغلها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
النبي r يستغل النزعة الدينية:
ومن أبرز الأمثلة في ذلك الشاب الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأنه قبَّل امرأة!
عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فأنزل الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
فقال الرجل: يا رسول الله، إلي هذا؟ قال: (لجميع أمتي كلهم)[رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة، (495)].
فانظر كيف تحركت في نفس هذا الشاب النزعة للتدين وأرقته نفسه اللوامة، وتأمل أيضًا ـ عزيزي المربي ـ كيف استغل النبي صلى الله عليه وسلم هذه النزعة، وحرَّك فيه الرغبة في التوبة والرجوع إلى الله.
ومن القصص البارزة أيضًا التي تبين كيف استغل النبي صلى الله عليه وسلم النزعة للتدين عند الأطفال؛ قصة عمير بن سعد مع زوج أمه الجلاس بن سويد، وإليك ـ عزيزي المربي ـ فحوى قصة عمير بن سعد:
(أسلم الفتى عمير وهو صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلًا، فوجد الإيمان في قلبه الغض مكانًا خاليًا فتمكن منه، وألفى الإسلام في نفسه الصافية الشفافة تربة خصبة فتغلغل في ثناياها، فكان على حداثة سنه لا يتأخر عن صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهبًا إلى المسجد أو آيبًا منه، تارة مع زوجها وتارة وحده.