الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
قال الله عز وجل "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ... " سورة النور آية 31
وقال عز وجل " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " سورة الأحزاب آية : 59
لقد كانت فريضة الحجاب فريضة محكمة أراد الله عز وجل من خلالها أن يحفظ للمرأة كرامتها من الامتهان ، وعرضها من الابتذال ، وذلك بسترها لجسدها ومفاتنها ، حتى تتمكن من القيام برسالتها الإنسانية إلى جانب الرجل وتكف طرفه عنها لكي لا يطمع في شرفها من في كان قلبه مرض " فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا " سورة الأحزاب آية : 32
إن الآيات الكريمة السابقة نسيج واحد يحتوي على مجموعة من الوصايا التي تكرم المرأة ، وتهيئها لحمل رسالتها كإنسان مكمل لنصفها الآخر : الرجل .
- فلتغضض من بصرها كما أُمر الرجل .
- ولتحفظ فرجها مثلها مثل الرجل .
ثم تتميز المرأة تبعاً لتكوينها الذي خلقها الله عز وجل فيه ووظيفتها التي أناطها الله عز وجل بها ببعض الأوامر والوصايا :
- فلا تبدي زينتها إلا لمن سمّاهم الخالق عز وجل .
- وتضرب بخمارها على رأسها وعنقها وصدرها .
- وتحرص على أن حالها مبني على الستر دائماً فتدني على جسدها جلباب اللباس والقماش وعلى نفسها وكرامتها جلباب الحياء والفضيلة .
- وتجدّ في لهجتها وحديثها ، وتخفض من صوتها وضحكها ، وتختار الكلمة المناسبة مع المقام المناسب بحسب الحال والمآل حتى لا يطمع بها مرضى القلوب . وحين تتحقق المرأة بهذه الوصايا فلا عليها أن تكون عنصراً فاعلاً في الحضارة إلى جانب الرجل تشاركه في محافل العلم والعمل والجهاد والتربية والدعوة ولم يمنعها حجابها من كل ذلك ولم يعق حركتها ولم يعرقل مسيرتها .
المطلب الأول - العلمانية والحجاب :
وقد أدرك الغرب أن حجاب المرأة المسلمة – المسلمة فقط - رمز للتحدي يشكل خطراً على إيديولوجيته العلمانية ولذلك قرر منع الحجاب . فشعاراته البراقة ، وشعارات الثورة العلمانية كلها ركلت بالأقدام في سبيل منع الحجاب وبدا للناس جميعاً حقيقة طالما خفيت عليهم وهي أن شعارات الحرية والديمقراطية إنما هي مجرد أوهام وأحلام خدعوا بها .
سألت أستاذاً علمانياً ينسب نفسه إلى الفلسفة لماذا منعت الدولة التي ترفع لواء العلمانية المرأة المسلمة من حجابها ؟! فقال لي : - ولعله يسترضيني – هذا في الحقيقة شرخ كبير في العلمانية كان عليها أن لا تقع فيه ، ولكن العلمانية تصحح أخطاءها ومساراتها دائماً . فقلت : إن هذا الشرخ ليس في المظهر ، ولا في كونه مجرد نزوة عابرة ، أو خطأ في الممارسة وإنما هو نتاج للخلل في الأساس العلماني ، وهو شرخ في القاعدة الفلسفية التي تقف عليها ظاهرة العلمانية .
لقد صدع العلمانيون رؤوسنا في التنكيل بالأنظمة المستبدة ، والتغني بالحرية والمساواة والديمقراطية ونحن معهم في ذلك . كما تحدثوا عن الفاروق عمر على أنه " المستبد العادل " أي أنه الخليفة الذي يمتلك كل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وهو بنظرهم اتجاه لم يعد صالحاً لهذا العصر ، والبديل له بنظرهم دولة المؤسسات العلمانية التي لا سلطان لأحد عليها إلا للعدالة .
والسؤال الآن : إذن لماذا ضاق الغرب ذرعاً بحجاب المرأة المسلمة فكشر عن أنيابه وأصدر قراراً بمنعه ؟ كيف استطاع أن يفعل ذلك ما دامت المؤسسات العلمانية القانونية هي التي تحكم ولا سلطان لأحد عليها ؟ أليس هذا القرار من أحط ألوان الاستبداد ، ولا يمكن تصنيفه إلا في مخلفات القرون الوسطى المظلمة ؟! .
لم تنج إذن العلمانية من الاستبداد ، والاستبداد الظالم ، فإذا كان لا مناص من الاستبداد إذن فأن يكون استبداداً عادلاً خيرٌ لنا ، فعادت الحاجة ماسة إلى مثل الفاروق عمر رضي الله عنه .
الإشكالية هنا : أن الإنسان هو الذي يحكم ، وهو الذي يسيّر المؤسسات وهو الذي يسن القوانين ، وهو الذي يفسرها ويؤولها وهو الذي ينفذها ، فما أسهل عليه أن يوظف ذلك كله لخدمة مصالحه ومنافعه ، وخصوصاً في هذا العصر الذي يلعب الإعلام والدعاية دوراً بارزاً في غسل الأدمغة ، وترويج الأفكار ، وتغليب بعضها على بعض بحسب الحال والظرف والمصلحة .
ومن هنا فالشعارات العلمانية الرائجة اليوم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي شعارات ظرفية تخدم الإنسان الأقوى – الإنسان الأبيض – وتوظف الآخرين لخدمته وفي الوقت الذي تصبح خطراً عليه تداس بالأقدام وتُركل بالنعال، وظاهرة الحجاب مثال على ذلك.
ولذا فالقول إن العلمانية وقعت في خطأ – مجرد خطأ – حين منعت المرأة المسلمة من حجابها هو محاولة للخروج من عنق الزجاجة ، لأن الممارسة العلمانية محكومة بشيئين هما :
- الإنسان وطغيانه الممكن بل الغالب .
- النفعية البراجماتية ، والأثرة الظاهرة في السلوك الإنساني أفراداً ودولاً وجماعات .
وفي هذه الحالة فالقضية ليست مجرد خطأ وإنما انهيار في البنيان العلماني من أساسه .
العلمانية لها قيمها المعلنة ، والأديان كذلك ، وإذا كانت الأديان تعد من يخرج عن عقائدها كافراً ، فإن العلمانية كذلك تحكم عليه بالنفي والإقصاء أو التخلف والرجعية أو الإرهاب ، فالعلمانية في هذه الحالة تتحول إلى دين علماني له قيمه وأصوله ورجاله بل وطقوسه أيضاً . والقول بأن العلمانية لا تنظر إلى نفسها على أنها مقدس يحرم المساس به ولذلك فهي تجدد نفسها وتصحح أخطاءها دائماً عبر صيرورة مستمرة كلام جميل ومعسول، ولكن الدين كذلك يقول ، فالإسلام يجدد نفسه دائماً " إن الله يبعث لأمتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها " .
فالعلمانية إذن دين متجدد ، والإسلام أيضاً كذلك والفارق هو أن الإسلام له ثوابته التي لا تُمس بينما العلمانية تدعي أنها متلونة ولا ثوابت لها إلا الواقع بتغيراته وأنماطه المختلفة . ولكن الإسلام لا يرغم الآخرين على أن يمارسوا شعائره فهم أحرار في دار الإسلام في ممارسة شعائرهم والإسلام يحميهم ، بينما العلمانية في دارها ترغم المسلمة على ممارسة الطقوس العلمانية في السفور والانحلال .
المطلب الثاني - الحجاب والتحدي الحضاري :
مرة أخرى : لماذا تضطهد العلمانية المرأة المسلمة المحجبة ؟
إن الغرب لا يرى في الحجاب الإسلامي مجرد قطعة قماش تستر شعر المرأة أو رأسها أو وجهها وإنما يرى في الحجاب اختزالاً للحضارة الإسلامية تغزوه في عقر داره .
إن الحجاب يعني في المنظور الغربي أن الإسلام كله بقرآنه ومحمده وكعبته يتجسد في قطعة القماش هذه ، وفي هذه المرأة المحجبة التي تخطر في شوارع باريس أو لندن . وإن هذه الصورة تمثل بالنسبة له أخطر ألوان التحدي ، إنها تذكره بطارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الغافقي على تخوم باريس . كما يرى الغرب في المرأة المحجبة وهي تتبختر في شوارع باريس أو غيرها كأنها ترفع راية الإسلام وتدوس قيم الغرب ، وتتحدى شعاراته البراقة ، وتهزأ بحضارته المبهرجة ، وتترفع عن مدنيته الزائفة ، إنها تتشبث بأصالتها في وسط المعمعة ، وتلتف حول دينها وعفتها وشرفها في وسط تيار جارف من الإغراء واللذة . إن منظرها مثير جداً فهو يشبه منظر الجندي المستميت في وسط المعركة حين يرفع اللواء والرماح تنوشه من كل مكان فيظل ممسكاً به حتى تتقاسمه شفرات السيوف وأسنة الرماح .
إن الغرب لا يرى في المرأة المحجبة مرأة بل يرى الإسلام يتحداه في عقر داره ، وقد حاول جاهداً أن يصمت لسنوات محافظاً على قيمه في الحرية ، ولكن ضغط الحجاب ودلالاته التاريخية والحضارية جعل صبره ينفد فانتهك القيمة الأساسية التي يقف عليها وهي قيمة الحرية وذلك ليوقف هذا المد الإسلامي الخطير .
أجل إن الحجاب الإسلامي - الإسلامي فقط - ليس مجرد تحد فقط بل هو غزو وبشارة في ذات الوقت ، فالمرأة الغربية اليوم تعيش في أحلك أيامها ، وأسوأ لحظاتها يقول بيير داكو " لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ومنهارة وخامدة مثلما هي عليه الآن ، ويمثل عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة ، فالمظاهر خداعة ، ذلك أن الفخ مموه على نحو يثير الإعجاب " (1) " إن الفخ قام بعمله على نحو ممتاز ... فالسمكة كانت جائعة ، وكان يكفي إلقاء الصنارة في الماء حتى تنخدع بها " (2) .
إن بيير داكو يلخص لنا حالة المرأة في الغرب بعبارة مختصرة ، إنها حالة مأساوية مريرة . وقد بدأت المرأة تشعر بذلك ، وبدأت تتململ من الضياع والعبثية التي خُدعت بها ، ولذا فهي ترى أن صورة المرأة المسلمة المحجبة صورة مثالية تتمنى لو يتاح لها أن تعيشها (3). ولكنها ليست مهيأة لذلك فهي مكبلة بقيود ثقيلة ، إنه إرث العلمانية المديد : تفكك أسري وضياع اجتماعي وأخلاقي ، وعدمية فلسفية ، وفردانية موحشة . ومن هنا فالمرأة المسلمة في الغرب تؤدي بحجابها دور الداعية الصامتة ، إنها ترفع شعار "" الكيان المستقل "" وتمثل أمام المرأة الغربية دور "" العالَم المتميز "" فهي كيان مستقل عن عالم الرجال وعالم أنثوي متميز عن عالم الذكورة .
إن المرأة المسلمة بحجابها تحتكر أنوثتها وتمتلكها ولا تبددها في عالم الرجال ، إنها تنطوي في داخلها على سرٍ يجب أن يظل مطمحاً لعالم الرجولة تهفو إليه الرجولة فلا تنال منه إلا بقدر ما يتحقق من سعادة وكرامة إنسانية مشتركة .
إن في المرأة جانبان : جانب عملي إنساني مشترك بينها وبين الرجل وهو دورها في الحياة والبناء والإعمار والمشاركة والعمل والعلم والإبداع . وجانب آخر هو أنثوي غريزي تميزت به المرأة عن الرجل ، وزودها الصانع عز وجل بمكونات الأنوثة فهي أم حنون وزوج رؤوم ، وأنثى لعوب . والإسلام لا يريد لأيٍ من الجانبين أن يطغى على الآخر ، فلا يريد المرأة المترجلة التي تكبت أنوثتها وتتحول إلى كائن قاس عنيف جلف . ولا يريد المرأة الجاهلة العابثة التي تُحوّل نفسها إلى أداة للمتعة واللذة والإنجاب فقط (4).