كانت الانتفاضة المباركة عام 1987م تنشر أشرعتها الوضيئة فوق الجباه السُّمر، وفلسطين- كل فلسطين- تلتهب تحت أقدام الغزاة نارًا، ولا تملك الدبابة المجنزرة أن تفرض منطق القوة على المجاهدين، فالحاكم العسكري وجنده المتغطرسون عجزوا أن يفرضوا حظر التجوال على مخيمات المهاجرين، وينتظر الحاكمُ الليلَ الكالح في المخيمات؛ لعله يستطيع أن يفرضه على الناس بقوة البارود والرصاص والسلاح، لكنه يبوءُ بالفشل، ويهزم الرصاص.
وتتسع ساحاتنا المجاهدة.. تمتد نار الانتفاضة حاميةً، فتشمل المدن والمخيمات والقرى تتأجج.. فغزة شوكة عاصية دامية مستعلية، ونابلس جبل النار تستعر، وترتعد الفرائص الصهيونية من جنين، وفي رام الله ملحمة وبطولة وفداء، ورفح وطول كرم والقدس- كل القدس- تلتهب، وكل بقعة تسابق الزمان والمكان، تزوِّد المجاهدين بالزناد والعتاد والأعلام والرايات، والنفوس والمهج الغاليات.
وازدادت فلسطين كلها اشتعالاً، والانتفاضة تدخل أيامها الأولى والناس لا يصدقون أيامها المباركات تتوالى، الخير فينا.. والجهاد مزروع ومدخر، وأخبارها المؤمنات تتواتر؛ والإذاعات العالمية تنقل أسماء الشهداء والمساجد الشاهدة، وأسبوع يمضي بعده أسبوع، قد دخل الشهر الأول بوابةَ التاريخ العظيم.
فأهل فلسطين كلهم مجاهدون، العائدون والمواطنون مجاهدون، العمال والفلاحون مضربون، والتجار أغلقوا المتاجر المصابرة، الكل في مسيرة التاريخ يمتطي الجواد اليعربي، يسابقون الريح والتاريخ، يلتهمون الأرض سهلاً وجبلاً، يستحضرون قصة اليرموك في الشمال، وحكاية التاريخ يوم بدر ماثلة، يتسربلون العزة الحمراء درعًا واقيًا، يستحضرون من الرعيل الأول القدوات، يتنسَّمون عبير محمد وصحبه الكرام، وسائر الأتباع..
فها هي أسماء في نطاقها تتبختر، وها هي الخنساء، وها هو الخباب والزبير والأسد حمزة- شهيد الله- يطير خلف القنبلة؛ وها هي المدينة تُنَغِّمُ الحِدَاء، حداؤها الندِيُّ، حداؤها الشجيُّ، حداؤنا الحزين، ما أشبه الأيام بالأيام يا أخي.. ما أجمل الجهاد.. الظامئون همو همو، والجائعون على الطوى يتضوَّرون، لكنهم رغم الجراحات العظيمة- يوم حمراء الأسد- يتسابقون إلى الوغى ويجاهدون، ويرسمون لقدسنا صورًا مجيدةً، تحيي القلوب، وتبعث الثوار من زمن بعيد.
الليل يرخي مع الشتاء برودةً تمتد في الأعصاب، ترتجف الضلوع، ترتعد الأوصال، تصطكُّ أسنان العراة الجائعين، تعربد الطائرة فوق سطوح القرميد في المخيم، تهتز كل الدور، وينادي بمنع التجوال الرعديد الخائف من قلب الدبابة، فيخرج من لا يجد في قدميه حذاءً غير الأرض الباردة، المتسربل بالظلام والعُري والفَخار، يواجه المخرز اليهودي، فما أشبه الشروق بالشروق.. وأشبه الظلام بالظلام.. لكنها الشمس توشك أن تزيل الليل والعَتَمَة، وتنشر الدفء والحياة، وتكشف الضباب، وتخرس المنادي بمنع التجوال، وتفقده الحياة.
قد ألِف المجاهدون معالمَ الطريق، في الليل تُقتسم المهامُّ مع الشباب المؤمنين، وشْم الطريق بالمسامير المعكوفة مهمة مجموعة من مسجد الخلفاء على طول طريق صلاح الدين، ورفْع الأعلام على أعمدة الضغط العالي مهمة مجموعة مسجد العودة، وعلى مجموعة مسجد الرضوان أن ترفعها على المآذن والأشجار الشامخات، الأعلام موجودة في دار الأخت فايزة، فقد صنعتها ليلة أمس، كما أخبرتنا في النقطة الميتة، وهي تنتظركم لأخذها من النقطة نفسها.
وعلى مجموعة مسجد النور أن تكتب على الجدران.. لحسن الخط بُعدٌ في نفسية المجاهدين والمواطنين، وتأنَّق في الكتابة والتخطيط يا سعد، وزخرف كلمة (حماس) وزيِّنها ببندقية وقنبلة وشامة، وكَحِّل الكلمات بالسواد، فإنها العروس؛ زينةً وعزةً ودلالاً، واصبر على نار العدو، فالصبر والمصابرة يورثان النور في القلوب، ويبدع المصابرون، ويصنعون الفجر والإيمان.
كان "نادر" في بداية الانتفاضة ممتلئ شبابًا وقوةً وعنفوانًا، لكنه لم يكن يملك البندقية، كان طويلا فارعًا، لا يمكنه أن يختفي في الأزقة الصغيرة، لكنه كان متقدمًا علينا جميعًا، فقد يبيت الليلة كلها فوق جدار المدرسة، ينتظر وراء العبوة المصنوعة من عيدان الكبريت، لا يقبل البلل، لا يعرف البرد، الدفء في أعطافه مختزن من عبق الجهاد والمقاومة، قنبلةُ الكبريت كانت مرعبةً، فما أن تقترب آليات اليهود حتى تنفجر، ويطلق الرصاص يمزق صمت الليل وصفوه، وتتوالى الأصوات، وتكون تجربةً رائعةً لنادر.. آهٍ لو نملك القنابل والبنادق، وكيف يمكن أن نملكها إن لم تكن إلا من أيدي الجنود الغاصبين..
ولمعت الفكرة المجنونة في رأسه...
هل يُعقل أن نقتلهم ونغنَم سلاحهم.. هل يمكن ذلك؟ كانت فكرةً غريبةً لا يمكن تصورها.. لكنها عزيمة المقاتل في سبيل الله.
في إحدى مزارع البرتقال شرق معسكر جباليا- شوكة فلسطين- كَمَنَ نادر بصحبة مجاهدين آخرين.. يترقبون ويرصدون.. عوَاءُ الضواري في المزارع ليلاً تقشعر له الأبدان، انطلاقةُ طائر مفزوع ترتعد لمفاجئته البوادر، صوت صافرة من بعيد يقترب.. هذا "جيب" مغتصِب ينتهب الأرض، يتوقف لحظةً، يترجل ضابطٌ مغتصِب، تشتد الأعصاب.. تتواتر الأنفاس.. يلتقط عن الأرض بيانًا من بيانات الانتفاضة، آهٍ لو كانت معنا البنادق.. آهٍ وكيف السبيل؟
مرةً أخرى تتوهَّج الفكرة المجنونة في رأسه، لا بدَّ من بندقية، لا تقل لي من أين نأتي بالبنادق.. لا تقل؟ سنحتفل يوم أن نملك أول بندقية بصورة خاصة، سنحتفل وسنشعل النار في قلوب الصهاينة المغتصِبين.. تلك الليلة لم يتمكن المجاهدون من فعل شيء، كانوا سيكسبون الجولة لو كانت معهم البنادق، لكنهم تعرفوا عن قُرب على ثغرات في أمن المغتصِبين الصهاينة..
إن توزيع بعض بيانات على الطريق العام- شارع صلاح الدين- يمكن أن يكرر المشهد.. يمكن أن يترجَّل الغاصب كي يلتقط البيانات.. يمكن عندها أن نلتقط قلبه برصاصتين، نرد بها على مجازرهم في مخيم بلاطة، نثأر للدماء النازفة في كل فلسطين.
في الليلة التالية...
كان نادر وإخوانه يتدارسون كيف يمكن الحصول على البنادق؟، بعد بحث عن الإبرة في تلة القش، وبعد تشتيت عيون البوم ليلاً، وتفريق الغربان في وضح النهار والكلاب، بعد عناءٍ دام شهورًا، علِم نادر وإخوانه أن هناك قطعة "كارلوستاف" لدى رجل ورثها عن أبيه الشهيد، يطلب بها ألفًا وخمسمائة دولارًا، ولكن من أين نأتي بالدولارات، ونحن الفقراء، لا نكاد نجدها في بيوتنا لو اجتمعت، وأخيرًا.. ذهبوا إلى تيسير، فقد كانوا يحسبون أن له من اسمه نصيبًا، بل إن في اسم عائلته أيضًا فألاً حسنًا، وهو حديث عهد بعرس، أفيصح أن نطرقه في ثلث الليل الأخير؟ لكنهم مضوا وكلَّموه أن يقرضهم بعض المال، فيعجَب منهم، وأي مال معه؟ فهمسوا إليه: ذهب الزوجة قد يكفي لشراء بندقية قديمة، فخلعت أم حمزة الأساور الجميلة ليفرح المجاهدون بالرصاص والبنادق.
وأخيرًا اشترى نادر قطعةً قديمةً من رشاش الكارلوستاف.. كان قديمًا جدًا في عمره آنذاك، لكنها بندقية مقاتلة، والقدم لن يضيرها، والبركة في تاريخها وشرفها، أليست بندقية مجاهد شهيد؟ كان نادر يعجبه الفأل الحسن؛ لذلك كان يرى أنها بركة جهاد، لا يصح أن تفارقه، ولو أعطوه بدلها ألف بندقية.
حين مضى ثلث الليل الأول انطلق نادر ورفيقاه شرق معسكر جباليا، هناك وسط مزارع البرتقال التي شهدت تجربته الأولى للبندقية، أطلق الرصاصتين الأوليين، سمع الرصاص والنباح وفرار الطيور معًا، ولما مضى ثلثا الليل، في منطقة الزرقا بجوار الحفرة القديمة شمال غزة- بجوار المطينة- أطلق نادر الرصاصتين الأخريين.. عوت الكلاب في المزارع، وقفزت في كل اتجاه مرةً أخرى، والله هذا فأل حسن.. الكلاب واليهود يفرون من بنادقنا ورصاصنا، وطار نادر ورفاقه إلى البيارات، بعد مائة متر داخل المزرعة قال نادر: البندقية صالحة، وأنقد الرجل ثمن البندقية القديمة، ثم احتضنها بخشوع، وسجد ورفيقاه في الوحل والطين.
فاضت الدموع في مآقيها، وأشرق الأمل.. هذه المرة الأولى التي أمتلك فيها بندقية مقاتلة، ما أكثر البنادق في بلادنا.. لكنها معطلة!!
أصبح عندي الآن بندقية، أصبحت في قائمة المجاهدين، بل في رأس القائمة، غدًا غدًا سنحمل البنادق، غدًا غدًا، والليل يشهد عودة المرابط، غدًا غدًا، جعل يدق الأرض بقدميه، والمجاهدان وراءه بين سطور الشجر، كأنهم في طابور عسكري، كانت نشوة الحصول على البندقية المصنوعة سنة تسع وخمسين يومها أفضل من الترسانة العربية الكبيرة في مخيلته آنذاك، والحق معه، فرقٌ بين بندقية تقاتل، وطائرة تحطَّم في مطاراتها السرية، وأرتال من الدبابات تصدَأ في المخازن، وتصير عبئًا على العرب والبيئة معًا، فرق كبير، والعزة للرصاصة الصافرة في الهواء بالنشيد والحداء والتكبير، عائدون عائدون، إننا لعائدون.
-