أجاب الدكتور عبد المنعم النمر
هذا السؤال أو التساؤل قديم سأله المعارضون للرسول من باب المعارضة له في شيء ما، ولو نزل جملة لقالوا لم لم ينزل مفرقا؟ ولكن سؤالهم أو اعتراضهم هذا أفادنا كثيراً في معرفة الحكمة من الله سبحانه منزل الكتاب حيث ذكر اعتراضهم ورد عليه: (وقالوا لولا نزّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدة)؟ كما نزلت الكتب السابقة: التوراة والإنجيل حسب ما بلغهم. فرد الله عليهم في الآية نفسها (كذلك.. "أي أنزلناه مفرقا" لِنثبّتَ به فُؤادَكَ ورتَّلناهُ ترتيلا).
ثم تأتي الآية الأخرى فتسوق لنا حكمة غير الأولى:
(وقُرءاناً فَرَقناهُ لِتَقرأَهُ على النّاسِ على مُكثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً).
ومعنى فرقناه: جعلنا نزوله مفرقا منجما وفي قراءة: فرَّقناه بتشديد الراء.
ما الذ الرشفة بعد الرشفة يأخذها الظامئ من كوب عصير بارد ليستديم لذة هذا العصير في فمه مدة!..
وما أطيب الأمن والراحة النفسية للإنسان. يتعهده حاميه وراعيه الفينة بعد الفينة، ويزوره المرة بعد المرة، ويزوده كلما زاره بطاقة تقوية، وتشد أزره وتحميه!..
هذا شيء نحسه من واقع الحياة التي نعيشها والطبيعة التي تحكمنا، والقرآن هدى وشفاء، تشريع وتكليف، نزل على الرسول ليقود على هديه البشر، ويداوي به أمراضهم الاجتماعية، ويمدهم بطاقة مادية وروحية، وهو ليس بالقصير الذي يمكن قراءته في جلسة، أو حفظه في يوم، ولهذا كان من حكمة الله أن ينزل على الرسول مفرقا، حتى يتمكن (ص) وهو وصحابته من حفظه؛ لأن الرسول وإن كان قد حرص على أن يأمر بكتابته، إلا أن العرب تغلب عليهم الأمية غلبة كبيرة، صدورهم هي كتبهم أو كما قيل: "أناجيلهم صدورهم" فهم يعتمدون على الحفظ، ولذلك، برعوا فيه، ولابد أن يكون القرآن أمره كذلك، يعتمد فيه على الحفظ، حتى وإن كتب على حجارة ملساء أو عظام مفرطحة، أو غر ذلك مما يستطيعون الكتابة عليه؛ لأن الورق لم يكن متوفرا لديهم بالصورة التي نراها عندنا، أو بالصورة التي تمكنهم من كتابة القرآن كله عليه..
فكيف إذن يمكنهم حفظه لو نزل دفعة واحدة؟ هذا أمر عسير، ومن المتعذر على الإنسان أن يجد له حلا.. والله قد أخذ عباده بالتيسير عليهم: (لا يكلفُ اللهُ نفساً إلا وُسعَها) فلم يكن مفر من نزول القرآن مفرقا: (وقرآناً فرقناهُ لتقرأه على النّاسِ على مُكثٍ) أي على مهل وتؤدة، (ونزلناه تنزيلا) متتالياً لذلك. فإذا حفظوا اليوم ما نزل، ثم حينما ينزل شيء يحفظونه، ويضمونه إلى ما حفظوه من قبل كان الحفظ سهلا عليهم كما نفعل نحن اليوم ويفعل كل الناس والطبيعة واحدة والقدرة في جملتها واحدة.
ولو نزل القرآن جملة واحدة لنزل فيه الأمر بالعقائد والتشريعات كلها دفعة واحدة، وكان القوم سيعجزون وهم في أول أمرهم بالإسلام.. وفي حاجة إلى أخذهم بالرفق والتدريج، وقد رأينا كيف عالج القرآن أمرهم في شرب الخمر بالتدريج، ولو كانت الحكمة في غير التدريج لكان.. ولكن الله فعل ما تقتضيه حكمته القائمة على علمه بالنفوس، فهل كان يتسنى للقرآن الأخذ بهذه الحكمة، لو أنه نزل جملة واحدة؟ّ!
حقيقة يولد الإنسان ويشب حتى يبلغ فيكلف بكل ما في القرآن، ولكنه مسلم وابن لمسلم، وشب وتربى في جو إسلامي وتعود في صغره على آداب الإسلام وتشريعاته، فلا يصعب عليه القيام بعد ذلك بتكاليفه.. فالأمر يختلف عمن ندعوه لينسلخ من شركه في بدء الدعوة لينضم لزمرة المؤمنين _والدعوة غريبة ولها أعداؤها.. فلا بد من التدرج في التكاليف بما يتناسب وحالة الداخلين الجدد في الإسلام.
وكثيراً ما كان يسأل المؤمنون أو اليهود أو المنافقون أو المشركون، يسألون عن أشياء يريدون فهمها أو عن أشياء يريدون تعجيز الرسول وإظهاره بمظهر عدم العارف ليضعفوا من شخصيته ومهابته، وكان نزول القرآن مفرقا يتيح للرسول أن يتلقى الرد عليهم من جبريل بما يريد الله، ولذلك تجد كثيراً في القرآن (يسألونك) أو (يسألك الناس) وتجد الرد بعد ذلك:
(يَسئَلونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُل هيَ مواقيتُ للنَّاسِ والحجِ...).
(يَسئَلونكَ عن الخمرِ والميسرِ قُل فيهِما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للنّاسِ وإثمُهُما أكبرُ مِن نَّفعهما، ويسئَلونَكَ ماذا يُنفقونَ قُلِ العَفو).
(يَسئَلُكَ النّاسُ عَنِ الساعةِ قُل إنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ).
وغير ذلك كثير حتى بلغ (يسألونك) نحو خمسة عشر سؤالا وجهت للرسول في أوقات متباعدة، ونزل القرآن للرد عليها، فهل كان يتسنى الرد عليها لو أن القرآن كان قد نزل قبل ذلك بسنوات دفعة واحدة؟.
وهكذا تتجمع هذه الحكم والأسباب التي نستظهرها حسب علمنا وإدراكنا لتجعل من نزول القرآن مفرقا هو عين الحق والصواب ممن هو أدرى من الخلق جميعاً بالحق والصواب..
ولكن مما ينبغي معرفته مع ذلك أنه ليس معنى نزوله مفرقا أن كل آية منه نزلت على دفعة، بل معنى نزوله مفرقا أن نزوله كان على دفعات وأوقات استمرت من بدء البعثة، حتى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام أي مدة ثلاث وعشرين سنة.. فقد ينزل جبريل بآية، وقد ينزل بآيات، وقد ينزل بسورة صغيرة، وقد ينزل بسورة كبيرة كالأنعام مرة واحدة..
ومن السور التي نزلت دفعة واحدة: الفاتحة، الإخلاص، المعوذتان، المسد (تبت يدا أبي لهب)، الكوثر، البينة، المرسلات، الصف، الأنعام..
أما أغلبية سور القرآن فقد نزلت على دفعات.. وليس معنى ذلك أن النزول كان بالترتيب في السورة يعني تنزل الآيات الخاصة بسورة البقرة مثلاً على دفعات، ولا ينزل غيرها، ثم يبدأ الوحي في سورة أخرى فتنزل آياتها على دفعات، ثم تبدأ سورة أخرى وهكذا.. بل كانت الآيات تنزل، وجبريل يرشد الرسول الى أن هذه الآيات توضع في سورة البقرة مثلا قبل آية كذا أو بعدها.. ثم تنزل آيات أخرى بعد ذلك ويرشد جبريل إلى وضعها مثلا في سورة آل عمران وهكذا.. حتى إذا أتى رمضان من السنة نزل جبريل على الرسول يدارسه ما نزل في السنة الماضية من القرآن بالترتيب الذي أرشد إليه، ولو كان جزءاً من السورة، ثم إذا جاء رمضان آخر نزل جبريل يدارسه ما نزل من أول آية، حتى آخر ما نزل في العام للمدارسة بالترتيب، وهكذا، حتى آخر رمضان من حياة الرسول، وقد كاد القرآن يكتمل، إلا بعض آيات قليلة، فنزل جبريل يدارسه (أي يقرأ على الرسول مرة ويستمع له مرة) ما نزل من القرآن كله من أول آية: (اقرأ باسم ربك) حتى آخر آية نزلت قبل انتهاء هذه المدارسة الأخيرة، بالترتيب الذي عليه القرآن الآن، فيقرأ من سورة البقرة ما نزل ، ومن سورة آل عمران ما نزل.. الخ. وهكذا انضبط أمر القرآن تماما..