ركب سيارته، فيضع شريطا غنائيا بصوت امرأة، ويترنح قليلا وهو يستمع، فإذا نهيته قال “الأمر فيه سعة والواحد يستفتي قلبه”.
تزور رجلا في منزله فإذا هو غارق في مشاهدة الأفلام والمسلسلات، فتنصحه بكلمة طيبة فيعود على أريكته ليقول لك “النبي صلى الله عليه وسلم قال: استفت قلبك وان افتاك الناس وأفتوك”.
تدخل عليه المكتب فإذا هو يلاطف أحدى الموظفات وصوت ضحكاتهم يصل لآخر الجناح، فتقول له “بو فلان اتق الله”، يقول لك “قلبي نظيف والواحد يستفتي قلبه”.
جميعهم تذرع بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل الحديث استدلوا به على الوجه الصحيح أم موافقة لهواهم؟
أول أمر ينبغي أن نعلمه السياق الذي جاء فيه ذلك الحديث، فعن وابصة رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألت عنه. فقال: لي ادن يا وابصة. فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته. فقال لي: يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه؟ قلت: يا رسول الله أخبرني. قال: جئت تسأل عن البر والإثم. قلت: نعم. فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك، والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)، أما لفظة (استفت قلبك) فلا تأتي ابدا مستقلة لوحدها عن هذا الحديث، هناك روايات أخرى يقول فيها وابصة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له (استفت قلبك)، ومع ذلك فيُرد المجمل على المفصل، أي إذا أتانا حديثان بنفس السياق إلا أن أحدهما يحوي ألفاظا ومعان أكثر فيعمل بالحديث الذي يحوي الألفاظ والمعاني الأكثر، ما أقصده أن العمل بلفظة (استفت قلبك) فقط يعتبر انتزاعا للحديث من السياق الذي جاء فيه عند غالب من يستدل بالحديث.
لنرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال له:
يا وابصة استفت قلبك.
وهذا هو الجزء الأول من الحديث، وأما ما بعده شرح لمعناه حيث قال بأي وأمي هو:
والبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.
للأسف الناس تلغي معنى الحديث الوارد بعد لفظة (استفت قلبك)، ويستخدمونها في ما يشتبه من الامور مما يختلف العلماء في الحكم عليه، ويستخدمونه كذلك فيما يثبت تحريمه لكن العقل المجرد من الدليل الشرعي قد يُفتي باباحته كالتدخين مثلا، ويصبح هذا النص الشرعي وسيلة وذريعة للوقوع في المحرمات والتساهل فيها.
الإشكالية الخطيرة ليست سوء فهم الحديث، وإنما قلب معناه وعكس مراده، فهذا الحديث ليس مدعاة للتساهل في الاحكام بل مدعاة للتورع عن الحرام، فقوله صلى الله عليه وسلم (البر ما اطمأنت إليه النفس) يدل على أن البر ما يتيقن الانسان من كونه مباحا لا تردد فيه ولا شبهة، وعكسه الاثم حيث قال (الاثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر) بحيث تجد هذا الانسان بمجرد أن تُطرح قضية محرم من المحرمات التي اشتبهت على الناس كالتدخين ينبري للدفاع عنها حتى لو لم تكن القضية مطروحة أمامه، يريد أن يثبت لنفسه قبل غيره أنه على طريق البر، وكلما قسى قلب الانسان كلما كان قبوله للمحرم ووقوعه في الشبهات أيسر واستدلاله بهذا الحديث قائم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خاطب وابصة لم يقصد بكلامه هذا أن يوقعه في التساهل في الاحكام، إنما ليضع له خطا أحمرا لا يقترب منه، هو خط المعصية، ولن يدوس على هذا الخاط ما دام يترك الحرام البين ويأخذ بالحلال البين، ولن يقع ما دام يستفتي قلبه تورعا لا يستفتيه تساهلا.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؟ إن كل ما هو حلال لا يريب، وكل ما هور حرام واضح فلا ريبة في تحريمه، لكن بقي المشتبه الذي يريب أكثر الناس، ينبغي أن لا يجعله الانسان مطية للحرام.
فرسالة لكل من يعمل بهذا الحديث، هذا الحديث مدعاة للتورع كما هو سياقه، أي لو اشتبه عليك أمر ولم تتيقن من اباحته ثم جاءك من يفتيك بإباحته فاستفت قلبك، والقلب هنا ليس قلب المتساهل في امور الدين، إنما هو قلب من يخاف الوقوع في الحرام، ولا هو قلب من يبحث عن كل ثغرة ليجد فيها اباحة مشبوهة بل قلب من يريد إرضاء الله بتجنب ما حرمه.
ولتعلم أيها المسلم بان فتوى العالم لا تجعل الحرام حلالا، فإذا كان هذا العالم قد سعى كل سعي للإحاطة بالحكم الشرعي فلم يصل سوى لإباحة هذا المحرم فهو في حكم المجتهد المخطئ الذي له أجر، أما أنت فإن تركك للحرام مأجور عليه، وتركك للمشتبه مأجور عليه، ووقوعك في الحرام بحجة استفتاء القلب لا يرفع عنك الحرج ولا يرفع عنك الاثم، بل قد يكون هذا بابا من أبواب التحايل على الله مما يستدعي تشديد العقوبة على فاعله.
هل علمتم كيف قلب الناس مفهوم الحديث فجعلوه وسيلة لركوب كل ريبة!