مواقف انسانية

( قطعـة حلوى )

كان لا يعرف في كل الكلمات سوى كلمة ( أمي ) ..
ولا يحفظ من كل الوجوه سوى وجه والدته ..
ولا يشعر بالأمان سوى بقربها ..
وكان قد أتم عامه الخامس ..
وُلد بعقل ضعيف لا يؤهله للتصرف بشكل طبيعي مثل كل الأطفال في مثل عمره ، ولم يكن ينطق بشكل صحيح حتى تلك الكلمة الوحيدة التي يعرفها ..
كلمـة ( أمي ) ..
وكانت أمه تحيطه برعاية واهتمام خاص ..
فقد كان أول أبنائها ، وكانت قد قررت ألا تنجب بعده تجنباً لتكرار هذه المشكلة ..
ولتتفرغ لهذه المشكلة ..
وعلى الرغم من كثرة دموعها إلا أنها كانت تجاهد دوماً من أجل أن تكون لهذا الصبي حياة طبيعية كحياة أقرانه..
كانت تحمل الألم مع الأمل بداخلها ..
إنها بلا شك إرادة الله ، ولكن الدموع والأحزان كذلك من خلق الله ..
كان الصبي يألف الوجوه المكررة مثل وجه أبيه وأقاربه المقربين وجيرانه ..
ولكنه لا يميز بينها بدقة ، خاصة عندما تطلعه أمه على العديد من الصور فكان لا ينتقي من بينها سوى صورتها وينطق ( أمي ) ..
حتى صورته هو ما كان يتعرف عليها ..
ثم بدأ جسده ينمو ويكبر ..
و أصبح شاباً مقبول الشكل ..
ضعيف العقل ..
لم تكن له أية مواهب على الإطلاق ..
لذا فقد اهتمت والدته بجعله يمارس الرياضة ..
وظل لا يحفظ سوى وجه أمه ..
وأصبح يتمكن من تمييز وجه أبيه ..
وينطق كلمة ( أمي ) بشكل صحيح ..
حاولت والدته من أن تجعله يعتمد على نفسه في بعض الأشياء البسيطة ..
وكم كان هذا خطراً ..
و مرهقاً ..
ولكنها تحملت وواصلت محاولاتها ..


بدأ يتعلم كيف يرتب سريره ..
وكيف يبدل منامته وملابسه ..
وينظف يده وجسده ..
كان في عامه العشرين ..
وها قد بدأت فرحة أمه بهذا الإنجاز تبدأ ..

بدأ يطعم نفسه ..
وكان يستهلك في هذا وقتاً طويلاً ويهدر طعاماً كثيراً في كل وجبة ..
ولكنه إنجاز رائع ..
حتى الآن ..

كانت أمه تصحبه معها دائماً عند قضاء حاجاتها وحاجات بيتها ..
وكانت تلاحظ نظرات الناس لتصرفات ولدها غير الطبيعية..
ولكن ما يميزه أنه لم يكن من النوع العنيف أو العدواني أبداً ..
وكانت عاملة الحسابات في المحل الذي ترتاده الأم لقضاء حاجياتها تقريباً في مثل عمره ..
وكانت دوماً ما تعطف عليه كلما جاء مع والدته ، فتربت على كتفه و تعطيه قطعة حلوى صغيرة دون أن تضيف ثمنها على حساب الأم وهي تهديه ابتسامة جميلة من وجهها البشوش ..
وإذا لم يأت مع أمه كانت ترسل له معها قطعة الحلوى ..
كان بدأ يشعر بالسعادة كلما رأى تلك الفتاة ..
لم يكن يميز الجميل من القبيح ..
ولكنه كان يسعد لوجهها المريح وابتسامتها الهادئة ..
ربما لأن صفاء قلبها وعطفها عليه قد شعر هو بهما دون أن يدرك ذلك ..
ولكن الأم لاحظت ..
وأدركت ..
وطلبت من الفتاة معاونتها على تنمية عقل الابن مادام لها قبول لديه ..
ورحبت الفتاة بذلك ..
وكانت في أوقات فراغها تذهب إليه لتلعب معه وتسليه وتساهم في تطوير عقله وتنميته ليتناسب مع عمره وجسده محاولة لأن يصبح أقرب ما يكون لشاب طبيعي ..
وبذلت جهدها ووقتها وراحتها في سبيل ذلك ..
حتى اعتاد الفتى عليها، وتعلّم أن يحمل ورقة من والدته بها طلباتها ويذهب بها إلى الفتاة في محل عملها لتقضيها له ..
ويرجع إلى بيته سالماً سعيداً ..
يُطلع أمه على قطعة الحلوى التي اعتاد أن يأخذها من الفتاة ، ثم يأكلها فرحاً ..
فها هو قد تعلّم أن يحمل ابتسامة جميلة على وجهه ..
ابتسامة أصبح يهديها لكل من يقابله ..
وأصبح يميز وجه والده ووجه الفتاه ووجهه هو بالإضافة إلى وجه أمه ..
وكان في هذا قمة السعادة التي وصلت إليها الأم بعد كل هذا الجهد ..

وفي ذات مرة ، وبينما كان ذاهباً ليقضي حاجيات أسرته من عند الفتاة كما اعتاد ، والابتسامة تملأ شفتيه ووجهه ..
لاحظ من الوهلة الأولى أنها غير موجودة ..
فلم يعرف كيف يتصرف ..
لابد من أن تكون موجودة ليسلمها الورقة فتناوله الأكياس المليئة بالأغراض وقطعة الحلوى ويعود إلى بيته ..
إنه روتين خاص به ولا يجيد التصرف إذا لم ينتظم هذا الروتين ..
فوقف لا يحرك ساكناً وعينه على المكان المعتاد لتواجد الفتاة والذي يجدها فيه كل مرة ..
والذي تملؤه الآن فتاة أخرى ..
فتاة لا يعرفها بوجه متجهم وبطء في أدائها لعملها ..
ولكن عندما تعتاد شخصاً ما فإنك تشعر به في داخلك ..
فالتفتت الفتاة إليه كأنما شعرت بوجوده ، ولما رأته نضر وجهها وابتسمت له ابتسامة يعرفها جيداً ..
هنا استمر كالمعتاد في إكمال روتينه ..
لقد كانت نفس الفتاة، ولكنه لم يتعرفها لأنها كانت على غير عادتها التي ألِفها ..
لم يكترث بكل هذا ..
فقد رجعت إليه ابتسامته بعد أن وجد الفتاة نفسها ..
من أين أتت وأين كانت ومن تلك التي كانت في مكانها ؟..
لا يعرف ولا يهم ولا يدرك كل هذا أصلاً ..
ورجع إلى بيته سالماً مبتسماً حاملاً الأغراض ..
وفي المرة التالية تكرر المشهد ..
فقد ذهب ووجد فتاة أخرى في مكان الفتاة التي اعتادها ..
ولكن لم تنظر إليه الفتاة ..
ولم تأبه لوجوده ..
فلم تكن هي نفسها هذه المرة ..
كانت أخرى بديلة حلت محلها ..
ولكن هو لا يفهم هذا ، لابد من أن تكون هي وان تبتسم له ..
ظل واقفاً مكانه طوال هذه المدة ..
جاء عامل من المكان يسأله عمّ يريده ..
فلم يجب ..
سألته الفتاة الواقفة ..
فأخذ يحدق فيها دون جواب ..
حاول بعض رواد المحل الاستفسار منه عن أية معلومة مفيدة ..
ولكن الصمت المطبق والتحديق المستمر كانا رده ..
ومر الوقت ، وظل هو على ثباته ..
فقلقت الأم لتأخره ..
ونزلت لتبحث عنه ..
ووجدته على هذا الحال في المحل ..
وأدركت السبب على الفور ..
فسألت عن الفتاة التي كانت تقف هنا ، وعلمت أن مرضاً ألمّ بها منعها من الاستمرار في العمل ..
سألت على عنوانها ، وذهبت من فورها مع ولدها لتعودها ..
وتهللت أسارير الشاب عندما رآها تبتسم له من على فراشها ..
كان وجهها شاحباً وهزيلاً على غير ما اعتاد فيها ..
ولكنه كان يعرف ابتسامتها ..
وكانت هي نفس الابتسامة التي تمنحه إياها ..
فناولها ورقة الأغراض التي أخذها من والدته ..
ولكن والدته أخذتها من يده ، وربتت عليه ..
لم يفهم شيئاً من هذا ..
ولكن لا يهم .